صراع العصبية بعد صفين

بعد انتهاء معركة صفين بغير نتيجة، و خروج الخوارج عن علي، فإن جيشه ضعف و تفرق فيما ازداد أتباع معاوية تمسكاً به، خاصة بعدما فشل التحكيم[1]. و بدأ علي يفقد الأمصار واحداً تلو الآخر. ففقد مصر و اثنين من كبار قادته، و هما محمد بن أبي بكر و الأشتر النخعي (و كلاهما من قتلة عثمان). ثم فقد الحجاز ثم اليمن، كل ذلك بدون قتال. حتى كان معاوية يقول «لقد حاربت علياً بعد صفين بغير جيش و لا عتاد»[2]. و تمرّدت عليه فارس ثم البصرة، و ثار عليه الخوارج فهزمهم في النّهروان و غيرها من المواقع. لكنه فَقَدَ دعْم كثيرٍ من عشائر العراقيين له بسبب تعاطف بعضهم مع الخوارج الذين هم منهم أصلاً.

و تواتر عنه أنه كان يظهر أشدّ النّدم على ما حصل، و يشتم أهل العراق على المنابر لعصيانهم له. فيقول في نهج البلاغة: «يا أشباهَ الرِّجالِ و لا رجال (!!)، حلومُ الأطفالِ عقول ربات الحجال، لودَدْتُ أنِّي لمْ أرَكُم و لم أعرفكم معرفة. و الله جرَتْ ندَماً و أعقبت سدماً... قاتلكم الله. لقد ملأتم قلبي قيْحاً، وشحنتم صدري غيظا،ً وجرَّعتموني نُغب التَّهام أنفاساً، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيانِ و الخذلانِ حتَّى لقد قالت قريشٌ: "إنَّ ابن أبي طالب رجلٌ شجاعٌ و لكن لا علم لهُ بالحرب". و لكن لا رأي لمن لا يُطاع»[3].

و قال أيضاً يفضح نفاق شيعته: «أَمَا وَ اللهِ مَــــــا أَتَـيْـتـُـكـُـمُ اخْـتـِـيَـاراً، وَ لكِنْ جَئْتُ إِلَيْكُمْ سَـــوْقـاً[4] (!!!)، وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: [عَليٌّ] يَكْذِبُ (!!)، قَاتَلَكُمُ اللهُ! فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ؟ أَعَلَى اللهِ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ! أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ! كَلاَّ وَ اللهِ، و لكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا، وَ لَمْ تَكُونُو مِنْ أَهْلِهَا»[5].

و قد دخل الكثير من الأعاجم في شيعة علي تدريجيّاً حتى صارو في ما بعد الأغلبية، مما ساهم في إضعاف الشيعة و حرفهم عن الإسلام. ذلك أن الفرس كان إسلامهم سطحياً، و لم يكن لهم عصبية إسلامية، و كثيرٌ منهم كان حاقداً على الإسلام الذي قوَّض دولتهم. و لم يستطع هؤلاء الدخول بحزب الأمويين لكونهم عجماً، فدخل الكثير منهم في شيعة علي t للتخريب في الإسلام، فأضعفو العزائم، ثم أخذو يضعون الأحاديث الموضوعة و يحرفون في الدين، و ينسبون ذلك ظلماً لأئمتهم. فأصاب آل البيت نكبات عظيمة و تعرضو للقتل و الاضطهاد كما حصل بكربلاء. و ذرف الشيعة عليهم دموع التماسيح كما سنرى. ثمّ أصبح السواد و الحزن شعاراً للشيعة فيما بعد، تماماً كما تنبأ لهم علي بن أبي طالب t بعد صفين:

«أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المتفرّقة أهواؤهم! ما عزت دعوة من دعاكم، و لا استراح قلب من قاساكم. كلامكم يُوهي الصُّمَّ الصِّلاب. و فعلكم يطمع فيكم عدوَّكم. فإذا دعوتكم إلى المسيرِ أبطأتم و تثاقلتم، و قلتم كيت و كيت، أعاليلٌ بأضاليل. سألتموني التأخيرَ دفاعَ ذي الدّينِ المطوّل. (فإذا جاء القتال قلتم) حِيْدِي حَيَادِ[6]. لا يمنع الضَّيم الذليل، و لا يدرك الحق إلا بالجدّ والصّدق، فأيّ دارٍ بعد داركم تمنعون؟ و مع أيّ إمامٍ بعدي تقاتلون؟ المغرور و الله من غرَّرْتموه! و من فاز بكم فاز بالسَّهمِ الأخيَب. أصبحت و الله لا أصدِّق قولكم و لا أطمع في نصركم. فرَّق الله بيني و بينكم، و أعقبني بكم من هو خير لي منكم، و أعقبكم مني من هو شرٌّ لكم منِّي! أما إنَّكم ستلقون بعدي ثلاثاً: ذلاً شاملاً، و سيفاً قاطعاً، و أثرةً قبيحةً يتخذها فيكم الظالمون سنَّة، فتبكي لذلك أعينكم و يدخل الفقرُ بيوتكم. و ستذكروني عند تلك المواطن فتودون أنكم رأيتموني و هرقتم دماءكم دوني، فلا يبعد الله إلا من ظلم. و الله! لوددت لو أني أقدر أن أصرِفَكُم صرْف الدينار بالدراهمِ، عشرة منكم برجلٍ من أهلِ الشام!». فقام إليه رجلٌ فقال: «يا أمير المؤمنين، أنا و إيَّاك كما قال الأعشى:

عَلِقتُها عرَضَاً و عَلِقَت رجُلاً                                      غيري و عَلِق أخرى غيرها الرجُلُ

و أنت أيُّها الرَّجُل علقنا بحبِّك، و علِقْتَ أنْتَ بأهلِ الشَّامِ، و عَلِقَ أهلُ الشَّامِ بِمُعَاوِيَة»[7].

 



[1]  سبق و أشرنا إلى أن حادثة التحكيم الشهيرة في الكتب المعاصرة (التي فيها نزع الخاتم) لا أساس لها من الصحة. إنما اتفق أبو موسى الأشعري و عمرو بن العاص على عزل علي و معاوية، و أن يختار المسلمون خليفة لهم بالشورى. فرفض علي هذه النتيجة لأنها زادت الأمر تعقيداً. و بذلك فشل التحكيم.

[2]  سير أعلام النبلاء (3\144).

[3]  نهج البلاغة ص 88–91 مكتبة الألفين بالكويت. أيضاً نهج البلاغة ص 70–71 طبعة بيروت. الخطبة رقم 27.

[4]  كيف يتجرأ الشيعة على الزعم بأن رسول الله r أوصى علياً t من بعده، مع هذا القول الصريح له في أصدق كتبهم؟!

[5]  نهج البلاغة. الخطبة رقم 70.

[6]  كلمة يقولها الهارب!

 [7] كنز العمال ج11 برقم (31726). راجع نهج البلاغة ص (94 ـ 96). الخطبة رقم 29. أيضاً ص (224). الخطبة 96.