النزاع بين علي و معاوية رضي الله عنهما

إن من المُسلـَّمِ به أن معاوية بن أبي سفيانýtýكان من كبار الصحابة و كان كاتب الوحي[1]، و هو الذي قال عنه النبي «اللهمَّ اجعَلهُ هادياً مَهْديَّـاً و اهدِ به»[2]. و قال أيضاً: «اللهم عَلِّم مُعاوية الكِتاب و قِهِ العذاب»[3]. و قد ثبت من فضائله في السنة الصحيحة الشيء الكثير[4]، ممّا لا يُنكِره إلا جاحدٌ أو جاهل. و لذلك لمّا سأل رجلٌ الإمام أحمد بن حنبل: «ما تقول –رحمك الله– فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول أنه خال المؤمنين، فإنه أخذها بالسَّيف غصْباً؟». قال الإمام أحمد: «هذا قول سوءٍ رديء. يجانبون هؤلاء القوم، و لا يجالسون، و نبيِّن أمرهم للناس»[5].

أما ما يقال من أحاديث في ذم معاوية و بني أميّة، فكلها أحاديث موضوعة[6] وضعها الشيعة أو المتملِّـقون للعباسيين. قال الإمام إبن القَيِّم الجَّوزيّة: «من ذلك الأحاديث في ذمّ معاوية، و كل حديث في ذمه فهو كذب، و كل حديث في ذم عَمْرو بن العاص فهو كذب، و كل حديث في ذم بني أمية فهو كذب، و كل حديث في مدح المنصور و السفاح و الرَّشيد فهو كذب... و كذلك أحاديث ذم الوليد و ذم مروان بن الحكم»[7].

و لعل الحادثة التي يدندن لها المنافقون هي قضية القتال بين أهل الشام و بين أهل العراق. فنقول إنه قد اقتتل جيش علي t في معركة الجمل مع جيش عائشة t و طلحة t و الزبير t، و هُمْ جميعاً من المبشرين من الجنة و من خيرة الصحابة و من خيرة من بهذه الأمة فليست تجريحاً و لا طعناً بهم لأنهم كانو متأوّلين و ذنبهم مغفور. و سيأتي تفصيل ذلك في محلّه بإذن الله.

و أما حديث «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» فهو صحيح. أما الزيادة التي وقعت في بعض نسخ البخاري القديمة: «يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ»، فهي لا تعني أن نشهد على أهل الشام بالنار، و لذلك قال أمير المؤمنين بالحديث ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث: «فالجواب أنهم كانو ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، و هم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم. فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها و هو طاعة الإمام، و كذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي و هو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، و كانو هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم».

و هذه الزيادة تفرد بها البخاري دون مسلم، رغم أن شرط مسلم أسهل. وقد كانت في نسخ صحيح البخاري القديمة ثم تنبّه لها فحذفها من صحيحه لأنها مدرجة. قال إبن حجر في شرح للحديث: «و اعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع، و قال: إن البخاري لم يذكرها أصلاً. و كذا قال أبو مسعود. قال الحميدي: و لعلها لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمداً. قال: و قد أخرجها الإسماعيلي و البرقاني في هذا الحديث. قلت –و الكلام لإبن حجر–: و يظهر لي أن البخاري حذفها عمداً و ذلك لنكتة خفية، و هي أن أبا سعيد الخدري اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي r، فدلّ على أنها في هذه الرواية مُدرجة، و الرواية التي بيّنت ذلك ليست على شرط البخاري». ثمّ بيّن ابن حَجَر عِلّة هذا الحديث باختصار، ثم قال: «فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي r دون غيره، و هذا دالٌّ على دقة فهمه، و تبحّره في الاطلاع على عِلل الأحاديث».

قال شيخ الإسلام: «ثم إن عمّاراً تقتله الفئة الباغية، ليس نصَّـاً في أن هذا اللفظ لمعاوية و أصحابه. بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته و هي طائفة من العسكر. و من رضي بقتل عمّار كان حكمه حكمها. و من المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار كعبد الله بن عَمْر بن العاص و غيره. بل كل الناس كانو منكرين لقتل عمار حتى معاوية و عَمْرو»[8].

و هذا و إن كان الإجماع قد انعقد أن علياً أقرب للحق ممن نازعه، فإن من اعتزل الفتنة أصلاً كان أقرب للحق ممن اشترك في الفتنة. و قد جاءت النصوص كلها مؤيدة لهذا. كقول رسول الله r: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ»[9]. و قوله أيضاً في الصحيحين: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِم.ِ وَ الْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي. وَ الْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي»[10]. و هذه الأحاديث استشهد بها الكثير من الصحابة في تعليلهم لعدم الخروج لقتال المسلمين. و اتفقو على تسميتها بالفتنة. و أيّ فتنة هي أعظم من تقاتل الصحابة مع بعضهم بعضاً؟ فلا شكّ أن من اعتزل الفتنة أفضل ممن اشترك فيها.

 و هذا هو موقف الغالبية العظمى من صحابة رسول الله r. فقد جاءنا في أصح الأسانيد أن قد هاجت الفتنة و أصحاب رسول الله r عشرات الألوف فلم يحضرها منهم مئة بل لم يبلغو ثلاثين[11]! و لم يشهد صفين من البدريين مع علي إلا ثلاثة فقط[12] على أقصى تقدير. و روى ابن بطة بإسناده عن بكير بن الأشج أنه قال «أما إن رجالاً من أهل بدر لزمو بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجو إلا إلى قبورهم».

 و قد قال رسول الله r: «إنّ ابْنِي هَذَا سَيّدٌ. وَلَعَلّ الله أنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْن مِنَ المُسْلِمِينَ»[13]. فأصلح الله به بين شيعة علي و شيعة معاوية. و أثنى النبي r على الحسن بهذا الصلح الذي كان على يديه، و سماه سيِّداً بذلك لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله و رسوله و يرضاه الله و رسوله. و لو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر الله به و رسوله، لم يكن الأمر كذلك، بل يكون الحسن قد ترك الواجب أو الأحب إلى الله. و هذا النص الصحيح الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمودٌ مرضي. و لذا يتبيّن أن ترك القتال كان أحسن، و أنه لم يكن القتال واجباً و لا مستحباً. قال ابن تين: «و فيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل. لأن الحسن و معاوية ولّي كلٌّ منهما الخلافة، و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد في الحياة، و هما بدريان»[14].

و الأحاديث الثابتة تبين أن كِلا الطائفتين دعوتهما واحدة و تسعيان للحقّ الذي تعتقدان، وتبرِّئهما من قصد الهوى و اتِّباع البطلان. فقد أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله r قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وَ تَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ»[15]. و هذا الحديث –كما ترى– يُثبت أنهما أصحاب دعوة واحـدة و دِينٍ واحـد. و أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله r قال: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. يَقْتُلُهَا أَوْلَىَ الطّائِفَتَيْنِ بِالْحَقّ». فهذا الحديث يبيّن أن كلا الطائفتين يطالبان بالحق و يتنازعان عليه، أي أنّهما يقصدان الحق و يطلبانه. و يبيّن أن الحقّ هو مع علي لأنه قاتل هذه الطائفة و هي طائفة الخوارج التي قاتلها في النهروان. قال الإمام محيي الدين النووي: «فيه التّصريح بأن الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن الإيمان و لا يفسِقون».

فلذلك نجزم بأن الصواب هو ترك الفتنة أصلاً. إذ إنّ الله يقول: ]وَ إِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُو فَأَصْلِحُو بَيْنَهُمَا. فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُو الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُو بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُو إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين[.

فالأمر بقتال الفئة الباغية يكون بعد أن يبدأ القتال. و لم يرد أي دليل على وجوب بدئ قتال الفئة الباغية، بل إن النصوص الصريحة الثابتة عن النبي r تفيد أن ترك القتال كان خيراً للطائفتين. فلم يكن واجباً و لا مستحباً. و إنّ علياً مع أنه أولى بالحق و أقرب إليه من معاوية، لو ترك القتال لكان فيه خيراً عظيماً و كفاً للدماء التي أسيلت. و لهذا كان عمران بن حصين t ينهى عن بيع السلاح فيه و يقول: «لا يُباع السِّلاح في الفتنة»، وهذا قول سعد بن أبي وقاص و محمد بن مسلمة و ابن عمر و أسامة بن زيد و أكثر من كان بقي من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار الذين اعتزلو الفتنة و لم يشاركـو في القتـال. لذلك قـال الكثـير مـن أئمة أهل السنة: «لا يُشترط قتال الطائفة الباغية، فإن الله لم يأمر بقتالها ابتداءً، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما. ثم إن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت التي تبغي».

ولـو فرضنا أن الذين قاتلـو علياً عصاة وليسو مجتهـدين متأولين فلا يكون ذلك قادحـاً في إيمانهم و استحقاقهم لدخول الجنان، فالله سبحانه و تعالى يقول ]وَ إِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُو فَأَصْلِحُو بَيْنَهُمَا. فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُو الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُو بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُو إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُو بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُو اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[[16]، فوصفهم بالإيمان وجعلهم إخوة رغم قتالهم وبغي بعضهم على بعض فكيف إذا بغى بعضهم على بعض متأولاً أنه على الحق فهل يمنع أن يكون مجتهداً سواءٌ أخـطأ أو أصاب؟!

و بالنسبة لبغي معاوية (إن سلّمنا به) فإما أن يكون فيه متأوّلاً أن الحقَّ معه، أو يكون متعمداً في بغيه. و في كلا الحالتين فإنّ معاوية ليس معصوماً من الوقوع في ذلك أو غيره من الذنوب. فأهل السنة لا ينزّهونه من الوقوع في الذنوب. بل يقولون أن الذنوب لها أسباب ترفعها بالاستغفار و التوبة منها أو في غير ذلك. و قد ذكر ابن كثير في البداية عن المسور بن مخرمة أنه وفد على معاوية قال: «فلمّا دخلت عليه فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟ قال قلت: ارفضنا من هذا و أحسن فيما قدمنا له. فقال: لتكلِّمني بذات نفسك. قال: فلم أدع شيئاًَ أعيبه عليه إلا أخبرته به. فقال: لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من ذنوب تخاف أن تهالك إن لم يغفرها الله لك؟ قال: قلت: نعم، إن لي ذنوباً إن لم يغفرها هلكت بسببها. قال: فما الذي يجعلك أحقّ بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوَ الله لما إلي من إصلاح الرعايا و إقامة الحدود و الإصلاح بين الناس و الجهاد في سبيل الله و الأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله و لا نحصيها أكثر من العيوب و الذنوب، و إني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات و يعفو عن السيئات، و الله على ذلك ما كنت لأخيَّر بين الله و غيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه. قال: ففكّرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خَصَمَني. قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير». فكيف إذا كان متأولاً؟ لذلك يقول ابن كثير: «معاوية معذور عند جمهور العلماء سلفاً و خلفاً».

يقول إبن تيمية: «و الصّحابة الذين لم يقاتلو معه كانو يعتقدون أنّ ترك القتال خير من القتال، أو أنه معصية فلم يجب عليهم موافقته في ذلك. و الذين قاتلوه لا يخلو إما أن يكونو عصاةً أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين. و على كل تقدير فهذا لا يقدح في إيمانهم و لا يمنعهم الجنة، فإن الله تعالى قال و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلو فأصحلو بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلو التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحو بينهما بالعدل و أقسطو إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فأصلحو بين أخويكم و اتقو الله لعلكم ترحمون. فسماهم إخوة و وصفهم بأنهم مؤمنون مع وجود الاقتتال بينهم و البغي من بعضهم على بعض. فمن قاتل علياً فإن كان باغياً فليس ذلك بمخرجه من الإيمان و لا بموجب له النيران و لا مانع له من الجنان. فإن البغي إذا كان بتأويلٍ كان صاحبه مجتهداً. و لهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين و إن قالو في إحداهما إنهم كانو بغاة لأنهم كانو متأولين مجتهدين. و المجتهد المخطىء لا يكفر و لا يفسق و إن تعمد البغي. فهو ذنب من الذنوب، و الذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة و الحسنات الماحية و المصائب المكفرة و شفاعة النبي r و دعاء المؤمنين و غير ذلك»[17]. قلت و سيمرُّ معنا –بإذن الله– كيف أن عليّ بن أبي طالب اعتبر من قـُتِل من الطّرفين في يوم صفّين شهيداً.

و لا شكّ أن للصحابة ذنوباً كباقي البشر لأنّ أحداً منهم غير معصوم. و لكنّ لهم أجراً عظيماً و ثواباً كبيراً يغفر لهم تلك الذنوب كلها، حيث أن رسول الله r قال «لاَ تَسُبّو أَصْحَابِي. لاَ تَسُبّو أَصْحَابِي. فَوَ الّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا أَدْرَكَ مُدّ أَحَدِهِمْ، وَ لاَ نَصِيفَهُ» فهذا يدلنا على عظم أجر الصحابة. و هم بلا شك أحق الناس بالشفاعة من رسول الله r. و لذلك فأهل الفرقة الناجية متفقون على أن الصحابة هم خير هذه الأمة كلها.

و هذا حاطب بن أبي بلتعة t فعل ما فعل. و كان يُسيء إلى مماليكه حتى ثبت أنّ غلامه قال: «يا رسولَ اللّهِ لَيَدْخُلَنّ حاطِبٌ النّارَ». قال: «كَذَبْتَ، لا يَدْخُلُهَا فَإِنّهُ شَهِدَ بَدْراً وَ الْحُدَيْبِيّةَ»[18]. و قد أرسل كتاب إلى بعض المشركين بمكة يخبرهم بأسرارٍ عسكرية، و انكشَف أمره. فالذي فعله هو خيانة عسكرية حدّها القتل، و قد تصل بصاحبها للكفر. و مع ذلك فإن رسول الله r لم يقتله و لم يكفّره و لم يفسّقه. بل لمّا قال عمر t: «إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَه». فأجابه رسول الله r: «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُو مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم». فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر، فدلَّ ذلك على أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة كما قال الله تعالى: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُو وَ نَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُو يُوعَدُونَ[[19]. و لذلك قال عبد الله بن عمر بن الخطّاب t: «لا تسبو أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة»[20]. و هذا فضل الله يؤتيه من يشاء. و لكن الحسد إذا حلَّ في قلب عبدٍ اسْتَحَال عِلاجه. كيف و هو أوَّل ذنبٍ عُصِي به الله تعالى عندما حَسَدَ إبليس آدم r؟

أما ما زعمه الشيعة من أن معاوية بن أبي سفيان لم يدخل الإسلام أصلاً و أنه كان منافقاً، فهو في غاية السخف. إذ لمّا مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، استعمل أخاه معاوية. و كان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة و أخبرهم بالرجال و أقومهم بالحق و أعلمهم به، حتى قال علي بن أبي طالب t: «كنّا نتحدث أن السَّكينة تنطق على لسان عمر». و قال النبي r: «إن الله ضرب الحقَّ على لسان عمر و قلبه»[21]، و قال: «لو لم أبْعَث فيكم، لبعث فيكم عمر»، و قال ابن عمر: «ما سمعت عمر يقول في الشيء: إني لأراه كذا و كذا إلا كان كما رآه». و قد قال له النبي r: «وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّك». و لا استعمل عمر قط، بل و لا أبو بكر، على المسلمين منافقاً، و لا استعملا من أقاربهما، و لا كانت تأخذهما في الله لومة لائم. بل لمَّا قاتلا أهل الردة و أعادوهم إلى الإسلام، منعوهم ركوب الخيل و حمل السلاح حتى تظهر صِحة توبتهم[22]. فلو كان عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان و أمثالهما ممن يتخوف منهما النفاق، لم يولَّو على المسلمين. بل إنّ الطاعن في عَمْر بن العاص هو طاعن في رسول الله r. إذ أن عَمْراً قد أمَّرَه النبي r في غزوة ذات السلاسل، و في الجيش أبا بكر و عمر، و النبي r لم يولِّ على المسلمين منافقاً. و أرسله كذلك ليدعو أهل عُمان إلى الإسلام فأسلمو. و قد استعمل على نجران أبا سفيان بن حرب أبا معاوية. و مات رسول الله r و أبو سفيان نائبه على نجران. و قد اتفق المسلمون على أن إسلام معاوية خير من إسلام أبيه أبي سفيان، فكيف يكون هؤلاء منافقين و النبي r يأتمنهم على أحوال المسلمين في العلم و العمل؟!

و معاوية ما أراد الحكم ولا اعترض على إمامة عليّ بن أبي طالب t، بل طالب بتسليمه قتلة عثمان ثم يدخل في طاعته بعد ذلك، فقد أورد الذهبي في "السير": «جاء أبو مسلم الخولاني و ناس معه إلى معاوية فقالو له: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا و الله إني لأعلم أن علياً أفضل مني، و إنه لأحق بالأمر مني، و لكن ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلومـاً، و أنا ابن عمه، و إنمـا أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولو له فليدفـع إليّ قتلة عثمـان و أسلّم لـهُ. فأتوْ علياً فكلّموه بذلك فلم يدفعهم إليه»[23]. و في رواية عند ابن كثير: «فعند ذلك صمّم أهل الشام على القتال مع معاوية»[24].

أما ما يزعم بعض الجهلة أن الخلاف بين علي و معاوية –رضي الله عنهما– كان سببه طمع معاوية في الخلافة، فهذا من باب الدخول في النوايا و القول بغير علم، و الله تبارك و تعالى يقول: ]قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ، وَ الْأِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَ أَنْ تُشْرِكُو بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَ أَنْ تَقُولُو عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[[25]، و يقول: ]وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُو فَقَدِ احْتَمَلُو بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً[[26]، و يقول عزّ و جلّ: ]وَ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ[[27].

و الثابت تاريخياً أن معاوية t لم يبايع بالخلافة إلا بعد أن قـُتل علي و تنازل له الحسن عن الخلافة. فلو فرضنا جدلاً أنه اتخذ قضية القصاص و الثأر لعثمان ذريعة لقتال علي طمعاً في السلطة، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على قتلة عثمان؟ حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي و مبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانو يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، و لا يمكن أن يقدم عليه إذا كان ذا أطماع. و معاوية t كان من كتاب الوحي، و من أفاضل الصحابة، و أصدقهم لهجة، و أكثرهم حلماً، فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي و يريق دماء المسلمين من أجل ملكٍ زائل، و هو القائل: «و الله لا أُخيَّر بين أمرين، بين الله و بين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه»؟![28]

فلا يعقل أن يصدر عن الصحابة كذب كما أثبتنا بالحجة الناصعة في بحث عدالة الصحابة، و هذا من الذي لا يعقله عاقل أن يصدر من معاوية. ذلك أن العرب كانو يعدون الكذب من أقبح الصفات التي يتنزه عنها الرجال الكرام. و هذه قصة أبي سفيان – و هو يومئذ على الشرك– فيما أخرجه البخاري في صحيحه في قصة سؤال هرقل عن رسول الله r، يقول أبو سفيان: «فو الله لولا الحياء من أن يأثرو عليّ كذباً لكذبت عنه»[29]. فهذا أبوه في الجاهلية يرفض أن يكذب رغم شدة حاجته إلى ذلك خوفاً من أن يؤثر عنه ذلك، فمعاوية رضي الله عنه أحذق من أن يفعل مثل هذا[30]. و لذلك اتفق علماء أهل السنة و الجماعة على أن هذا النزاع كان على دم عثمان و ليس على الخلافة، بل حتى أن أوثق مصادر الشيعة ذكرت ذلك كما سنرى.

يقول إمام الحرمين الجويني: «إن معاوية و إن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته و لا يدعيها لنفسه، و إنما كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب. و كان مخطئاً»[31]. و يقول شيخ الإسلام بن تيمية: «معاوية لم يَدَّعِ الخلافة، و لم يُبايَع له بها، حتى قـُتِـل علي. فلم يُقاتل على أنه خليفة، و لا أنه يستحقها، و كان يُقرُّ بذلك لمن يسأله»[32]. و يقول الهيتمي المكي: «و من اعتقاد أهل السنة و الجماعة أن ما جرى بين معاوية و علي رضي الله عنهما من الحرب، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي. فلم تهج الفتنة بسببها، و إنما هاجت بسبب أن معاوية و من معه طلبو من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه، فامتنع علي»[33].

قال العلامة التّقي: «و ليس في الصحابة بعدهم (أي الخلفاء الثلاثة) من هو أفضل من علي، و لا تُنازع طائفة من المسلمين بعد خلافة عثمان في أنه ليس في جيش علي أفضل منه، و لم تفضّل طائفة معروفة عليه طلحة و الزبير، فضلاً أن يفضل عليه معاوية. فإن قاتلوه مع ذلك لشبهة عرضت لهم. فلم يكن القتال له، لا على أن غيره أفضل منه، و لا أنه الإمام دونه. و لم يتسمَّ قط طلحة و الزبير باسم الإمارة، و لا بايعهما أحد على ذلك»[34]. و يقول –رحمه الله–: «و علي t لم يقاتل أحداً على إمامة من قاتله، و لا قاتل أحداً على إمامته نفسه، و لا ادعى أحدٌ قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه، لا عائشة و لا طلحة و لا الزبير و لا معاوية و أصحابه، و لا الخوارج، بل كل الأمة كانو معترفين بفضل علي و سابقته بعد قتل عثمان، و أنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته»[35].

و طالمـا أكّد معـاوية ذلك بقولـه «ما قاتلتُ علياً إلا في أمر عثمان»، وهذا هو ما يؤكده عليّ و من مصادر الشيعة الإثني عشرية أنفسهم، فقد أورد الشريف الرضي في كتاب نهج البلاغة في خطبة لعليّ قوله «و بدء أمرنا أنا التقينا و القوم من أهل الشام، و الظاهر أن ربنا واحد و نبينا واحد، و دعوتنا في الإسلام واحدة، و لا نستزيدهم في الإيمان بالله و التصديق برسوله، و لا يستزيدوننا. الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، و نحن منه براء»[36]. فهذا عليّ يؤكد أن الخلاف بينه و بين معاوية هو مقتل عثمان و ليس من أجل الخلافة أو التحكم في رقاب المسلمين كما يدعي غلاة الرافضة، و يقرر أن عثمان و شيعته هم أهل إسلام و إيمان، و لكن القضية اجتهادية كل يرى نفسه على الحق في مسألة عثمان. و هو ما يؤكده الحديث الصحيح المرفوع «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة. فبينما هم كذلك مرق منهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق». فالفئتين العظيمتين هما أهل الشام و أهل العراق، و أما الفرقة المارقة فهي فرقة الخوارج.

و قد تحدد موقفهم منذ اللحظة التي حمل فيها الصحابي الجليل النعمان بن بشير t قميص عثمان و هو ملطخ بدمائه و معه أصابع نائلة زوجة عثمان، فوضع القميص على المنبر في الشام ليراه الناس و الأصابع معلقة في كـُمِّ القميص. و ندب معاوية الناس للأخذ بثأر عثمان و القصاص من قتلته، و قد قام مع معاوية جماعة من الصحابة في هذا الشان[37].

أما أن معاوية أمر بسبّ عليّ من على المنابر فكذب، و لا يوجد دليل صحيح ثابت بذلك[38]، و سيرة معاوية و أخلاقه تستبعد هذه الشبهة، أما ما يذكره بعض المؤرخين من ذلك فلا يلتفت إليه لأنهم بإيرادهم لهذا التقول لا يفرقون بين صحيحها و سقيمها، إضافة إلى أن أغلبهم من الشيعة أو من العباسيين. ولو كان ذلك حقاً كيف سكت عنه الصحابة وهم متوافرون دون إنكار؟! وهم الشجعان الذين لا يخافون في الله لومة لائم فهم لا يسكتون على سب رجل من عوام المسلمين دون حق بله عن سب علي t وهو الذي أجمع المسلمون على فضيلته ومنزلته الرفيعة. قال القرطبي: «وأما معاوية فحاشاه من ذلك، لِما كان عليه من الصحبة والدين والفضل وكرم الأخلاق. وما يُذكَرُ عنه من ذلك فكذب. وأصح ما في ذلك قوله لسعد هذا. وتأويله ما ذكره عياض. وقد كان معاوية معترفاً بفضل علي وعظيم قدره»[39]. قال ابن عبد البر: «وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل علي بن أبي طالب tعن ذلك، فلما بلغه قتله قال: "ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب"، فقال له أخوه عتبة: "لا يسمع هذا منك أهل الشام"، فقال: دعني عنك"»[40].

و قد قلنا أن معاوية لم يقاتل علي إلا في أمر عثمان. و قد رأى أنه وٌلِّيَ دَمَ عثمان و هو أحد أقربائه. و استند إلى النصوص النبوية التي تبَيِّن و تظهر أن عثمان يقتل مظلوماً، و يصف الخارجين عليه بالمنافقين إشارة إلى ما رواه الترمذي و ابن ماجة عن عائشة قالت «قال رسول الله r: «يا عثمان! إن ولاّك الله هذا الأمر يوماً، فأَرادكَ المنافقون أن تخْلع قميصك الذي قمَّصَكَ الله، فلا تخلعه» يقول ذلك ثلاث مرات»[41]. عن مرة بن كعب قال «قال رسول الله r تهيج على الأرض فتن كصياصي البقر. فمر رجل متقنع، فقال رسول الله r: هذا وأصحابه يومئذ على الحق. فقمت إليه فكشفت قناعه و أقبلت بوجهه إلى رسول الله r فقلت يا رسول الله هو هذا؟ قال هو هذا. قال: فإذا بعثمان بن عفان»[42]. و قد رأى معاوية و أنصاره أنهم على الحق بناء على ذلك، و أنهم على الهدى و خصوصاً عندما نعلم أن المنافقين الثائرين على عثمان كانو في جيش علي فاعتبروهم على ضلال فاستحلّو قتالهم متأوِّلين. إضافة إلى أن أنصار معاوية يقولون لا يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا و لا يظلمنا، و نحن إذا بايعنا عليّاً ظلمنا عسكره كما ظلم عثمان، و علي لا يمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، و ليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل علينا[43]. و يقولون أيضاً أن جيش علي فيه قتلة عثمان و هم ظلمة يريدون الاعتداء علينا كما اعتدو على عثمان، فنحن نقاتلهم دفعاً لصيالهم علينا. و على ذلك فقتالهم جائز، و لم نبدأهم بالقتال و لكنهم بدءونا بالقتال، و نحن ندافع عن أنفسنا. خاصة أن قائد جيش علي هو الأشتر النخعي أحد قتلة عثمان.

و كان معاوية يقاتل في ظنه دفاعاً عن الحق و عن دم عثمان المهدور، و لم يكن ممن تأخذه العِزَّةُ بالإثم. فعندما قُتِل عثمان و بويع علي، كتب معاوية إلى علي أن عثمان ابن عمي قد قتل ظلماً و أنا وكيله و الله يقول ]وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً. فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً[[44]. فأرسل إلي قتلة عثمان أقتص منهم. و كان علي يستمهله في الأمر حتى يتمكن و يفعل ذلك. ثم يطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة و أبى أن يبايع علياً هو و أهل الشام. فكان أن جعل الله لمعاوية سلطاناً و جعله منصوراً كما وعد[45]. و لم يعترض معاوية و لا أحد من المسلمين على أحقية علي بالخلافة، و إنما أقصر بعضهم عن بيعته لرغبتهم في أن يثأر من قتلة عثمان أولاً كما أسلفنا من قبل. و كان طريقهم الحق و الاجتهاد و لم يكونو في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهَّمه متوهِّم و ينزع إليه مُلحِد، و إنما اختلف اجتهادهم في الحق. و قد أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله r قال: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَ إِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ».

فكان معاوية يرى أن علياً أحسن منه و أولى بالخلافة لكن الخليفة عليه تنفيذ حكم الشريعة و الاقتصاص من قتلة عثمان. و إذا لم يقدر الحاكم على تنفيذ أمر الله فعليه أن يوكّل أمر الحكم لغيره، لأن الغرض الشرعي من السلطان هو إقامة حدود الله. و هذا الموقف نابع من عصبية بني أمية القوية إذ خشي أن يتهم بالتقصير في دم بن عمه عثمان. لكن علي بن أبي طالب كان يرى ما لا يراه معاوية. إذ لم يقم لنصرته من المهاجرين و الأنصار إلا القليل، و كانت عامة جيشه من أهل العراق. و أهل العراق لم تكن لهم عصبية تجمعهم، بل كانو شراذم متفرقة. فإذا حاول أن يقتص من قتلة عثمان (و هم حوالي ألفين)، ثارت عليه عصائب العراق و تفرَّق عليه جيشه. فلم يكن من الممكن أن يقتص من قتلة عثمان حتى تهدئ الفتنة و تجتمع كلمة المسلمين و تضعف العصبية القبلية و تجتمع له قوة من غير أهل العراق، فيطلب كل قاتل للمحاكمة العادلة. و هذا الأمر لم يراه معاوية الذي كان يحكم الشام لعشرين سنة. و الشام بلد مدنيّ ليس فيها عصائب و قبائل، بل كان أهلها على قلب واحد. و قد غلط في هذا الأمر طلحة و الزبير و غيرهم من البدريين، و غلطهم كان أكبر لأنهم كانو في المدينة. و لكن الغلط في هذا الأمر لا يضرهم، لأنه غلط في أمر دنيوي[46].

و قد اتفق الفقهاء على أن الحاكم يجوز له تأخير الحد لمصلحة راجحة. و تلك المصلحة لم يراها من خاصم علياً كما أسلفنا. و قد أجمع علماء أهل السنة و الجماعة على أن علياً كان أقرب للحق من معاوية. و أن معاوية أخطأ في اجتهاده و تقديره، إذ كان عليه أن يطيع الخليفة الذي بايعه المهاجرون و الأنصار حتى لو أخَّر تنفيذ الحدود[47]. و من عجائب التاريخ أن الأمويين قد وقعو بما عابو بها علياً، إذ استعان مروان بن الحكم بقتلة الحسين (لعنهم الله) لنفس السبب الذي استعان به علي بقتلة عثمان (لعنهم الله). فسبحان مقلب الأحوال.

أما لماذا بدأ عليٌّ بالحرب فهو لخوفه من أنه لو ترك الأمور تهدئ و معاوية لم يبايع، فقد يطول الأمر و تتمزق بلاد المسلمين و تنفصل الشام عنها. و قد خرج الجيشان إلى صفين و كلٌّ يظن أنه يريد إرهاب صاحبه، و أن الوساطة ستنجح بين الطرفين. و لكن الأيام الطويلة مضت دون أن يصل المسلمون إلى نتيجة. و ما كان بحسبان عليّ أبداً –و لا معاوية– أن يتحول الأمر إلى تلك المجزرة العظيمة بين المسلمين دون أن تحقق ما كان يبغيه. و لكن إذا قدر الله أمراً فلا بد أن يمضيه. و لا يعقل أن يخرج لقتال معاوية لو كان يعلم ما ستؤول له حالة جيشه و المسلمين من بعد ذلك. و الخطأ في ذلك خطأ دنيوي لا يَضرّه[48]، أما الحكم الشرعي في قتال البغاة فلم يغلط به، بل فعله صار حُجَّةً عند الفقهاء من بعده.

و قد ذكر إبن عساكر لطيفةً أحب أن أذكرها هنا، و هو أن العبد الصالح عمر بن عبد العزيز قال: رأيت رسول الله r –أي في الرّؤيا–، و أبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلـَّمت و جلست. فقال لي: «إذا وُلـِّيـْتَ من أمور الناس، فاعمل بعمل هذين: أبي بكر و عمر». فبينا أنا جالس إذ أتي بعلي و معاوية، فأدخلا بيتاً و أجيف عليهم الباب، و أنا أنظر. فما كان بأسرع أن خرج علي و هو يقول: «قضي لي و ربُّ الكعبة يا رسول الله». ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية و هو يقول: «غُُـفِـر لي و ربُّ الكعبة يا رسول الله!»[49].

 



[1]  ثبت ذلك في صحيح مسلم مع الشرح كتاب فضائل الصحابة ـ باب ـ فضائل أبي سفيان جـ16 برقم (2501).

[2]  الحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/236) برقم (3018). و زاد الآجري في كتاب الشريعة لفظة: «و لا تعذبه». كتاب الشريعة للآجري (5/2436-2437) و إسناده صحيح.

و أخرجه البخاري بسند صحيح في التاريخ الكبير (5\240): عن أبي مسهر حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن (الصحابي عبد الرحمن) بن أبي عميرة قال النبي r لمعاوية: اللهمّ اجعله هادياً مهدياً و اهده و اهد به. إنظر أيضاً مسند الشاميين (1\190)، و الآحاد والمثاني (2\358)، و كذلك في التاريخ الكبير (7\326).

أبو مسهر قال عنه الخليلي: ثقة إمام حافظ متفق عليه. تهذيب التهذيب (6\90).

سعيد: قال أحمد في المسند: ليس بالشام رجل أصح حديثا من سعيد بن عبد العزيز. سير أعلام النبلاء (8\34).

ربيعة بن يزيد، قال ابن حبان عنه في الثقات: كان من خيار أهل الشام. تهذيب التهذيب (3\228).

عبد الرحمان بن أبي عميرة، صحابيٌّ جليل كما أثبت إبن حجر العسقلاني في الإصابة (4\342).

و الحديث أخرجه من طرق أخرى عديدة: الطبراني في المعجم الأوسط (1\205)، و أحمد في مسنده (4\216)، و الخلال في السنة (2\450). والحديث صحيح بلا شك على شرط مسلم.

[3]  أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (7\326) بإسناد صحيح، و أخرجه أيضاً أحمد في فضائل الصحابة (2/913).

[4]  أما ما يتشدّق به بعض الجهلة من نقلهم عن إسحاق بن راهوية أنه قال: «لا يصح عن النبي r في فضل معاوية شيء»، فلا يثبت عنه. فقد أخرج الحاكم كما في السير للذهبي (3/132) و الفوائد المجموعة للشوكاني (ص 407) عن الأصم –أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم– حدثنا أبي، سمعت ابن راهوية فذكره. و في الفوائد: سقطت «حدثنا أبي»، و هي ثابتة، فالأصم لم يسمع من ابن راهوية. قلت: يعقوب بن يوسف بن معقل أبو الفضل النيسابوري –والد الأصم– مجهول الحال، فقد ترجمة الخطيب في تاريخه (14/286) فما زاد على قوله: قدِم بغداد و حدّث بها عن إسحاق بن راهوية، روى عنه محمد بن مخلد. و لم يذكر فيه جرحاً و لا تعديلاً، و له ذكر في ترجمة ابنه من السير (15/453) و لم يذكر فيه الذهبي أيضاً جرحاً و لا تعديلاً، و ذكر في الرواة عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم، و لم أجده في الجرح و التعديل، و لا في الثقات لإبن حبّان. و بهذا فإن هذا القول ضعيف لم يثبت عن إسحاق بن راهوية رحمه الله.

[5]  السنة للخلال (2\434). إسناده صحيح.

[6]  أما رواه مسلم من حديث ابن عباس قال : كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب ، فجاء فحطأني حطأة و قال: اذهب و ادع لي معاوية، قال : فجئت فقلت هو يأكل، قال : ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: لا اشبع الله بطنه. فهو تأكيد لصحبة معاوية t و بأنه من كتاب الوحي، و قد أخرجه مسلم في باب المناقب. و ليس في الحديث ما يثبت أن ابن العباس t قد أخبره بأن رسول الله r يريده، بل يُفهم من ظاهر الحديث أنه شاهده يأكل فعاد لرسول الله t ليخبره. فأين الذم هنا كما يزعم المتشدِّقون؟! و في الحديث إشارة إلى البركة التي سينالها معاوية من إجابة دعاء النبي r. إذ فيها تكثير الأموال والخيرات له t. فلا أشبع الله بطنك تتضمن أن الله سيرزقك رزقاً طيباً مباركاً يزيد عمّا يشبع البطن مهما أكلت منه. و قد كانت تأتيه –رضي الله عنه– في خلافته صنوف الطيبات التي أغدقت على الأمة كما ذكر إبن عساكر في تاريخه.

أما قول الرسول r لعلي t: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»، فمعاوية t لم يعادي علياً t بل الاختلاف هو حول التعجيل بتطبيق حدود الله. كما أوضحناه مراراً و تكراراً. و قد نقلنا الكثير من ثناء معاوية على عليٍّ و ترحمه عليه بعد استشهاده.

[7]  المنار المنيف (ص117) بتحقيق العلامة عبد الفتّاح أبو غدة. و قد فصّل إبن الجوزي في تخريج هذه الأحاديث في كتابـه الموضوعات (2/15). إنظر أيضاً المنتخب من العلل للخلال (227) لابن قدامة المقدسي.

[8]  الفتاوى الكبرى لإبن تيمية (4\267).

 [9] البخاري برقم (18).

 [10] البخاري برقم (3334)، و مسلم برقم (5136).

[11]  رواه بهذا اللفظ الإمام أحمد عن محمد بن سيرين. و إسناده صحيح. إنظر السنة للخلال (2\466). و شواهده أيضاً كثيرة و صحيحة. قال ابن تيمية: «و هذا الإسناد من أصحّ إسناد على وجه الأرض. و محمد بن سيرين من أورع الناس في منطقته، و مراسيله من أصح المراسيل». منهاج السنة (6/236).

[12]  قال الإمام أحمد حدثنا أمية بن خلد قال لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا. فقال كذب أبو شيبة والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت. السنة للخلال (2\465)، و إسناده حسن. وقد قيل أنه شهدها من أهلي بدر سهل بن حنيف وكذا أبو أيوب الأنصاري، كما ذكر إبن تيمية في منهاج السنة.

 [13] أخرجه البخاري برقم (6576). و انظر كذلك رد بن حجر في الفتح (13\67) على من وَهِمَ و ضعّف هذا الحديث.

[14]  فتح الباري (13\67).

 [15] أخرجه البخاري برقم (5142).

 [16] (الحجرات:9ـ10).

 [17] منهاج السنة النبوية (4\393).

 [18] أخرجه الترمذي و صحّحه.

 [19] (الأحقاف:15-16)

[20]  رواه أحمد في فضائل الصحابة (1/57)، و ابن ماجة (1/31)، و ابن أبي عاصم (2/484)، و الخبر صحّحه البوصيري في زوائد ابن ماجة (1/24)، و المطالب العليّة (4/146)، و حسّنه الألباني في صحيح ابن ماجة (1/32).

 [21] أخرجه الترمذي و صحّحه برقم (3682).

 [22] الفتاوى الكبرى (4\259).

[23]  سير أعلام النبلاء (3\140)، بسند رجاله ثقات كما قال الأرناؤوط. و جوّد إسناده إبن حجر في فتح الباري (13/ص86).

[24]  البداية و النهاية (8/132)، و انظر كلاماً لإمام الحرمين و تعليقاً للتباني عليه – إتحاف ذوي النجابة ص 152.

[25]  (الأعراف:33).

[26]  (الأحزاب:58).

[27]  (النور:16).

 [28] سير أعلام النبلاء للذهبي (3/151).

 [29] البخاري مع الفتح (1/42).

 [30] قال الذهبي: «اتفق له البخاري و مسلم في أربعة، و انفرد البخاري بأربعة و مسلم بخمسة». و أخرج له أصحاب الكتب الستة ستون حديثاً. و قال أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني في "جزء البطاقة": «روى عن معاوية رضي الله عنه جماعة من أصحاب الرسول r». ثم ساق أسمائهم وأحاديثهم الى أن قال: «وروى عنه وجوب التابعين أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام، وهذه منزلة عظيمة ودرجة رفيعة شريفة».

[31]  لمع الأدلة في عقائد أهل السنة (ص115).

[32]  مجموع الفتاوى ( 35/72).

[33]  الصواعق المحرقة (ص325).

[34]  منهاج السنة (6/330).

 [35] المنهاج (6/328).

[36]  نهج البلاغة (3\648).

[37]  تاريخ الطبري (4/562)، و البداية و النهاية لابن كثير (7/228).

 [38]  و لعلّ أوّل من قام بذلك هو الحجاج عندما حكم العراق في زمن عبد الملك بن مروان. و هذه زلّةٌ كبيرة يذوب لها قلب المؤمن، و الحساب عند رب العالمين.

 [39] إنظر شرح صحيح مسلم.

 [40] الإستيعاب (3\1108).

[41]  سنن ابن ماجة، المقدمة ـ باب ـ فضائل أصحاب الرسول r برقم (112) و راجع صحيح ابن ماجة برقم (90). و أخرجه الترمذي عن أبي الأشعث الصنعاني كتاب الفضائل برقم (3704) وراجع صحيح الترمذي برقم (2922). و في إسناده عند الترمذي عبد الله بن زيد الجرمي، ثقة مدلس و قد عنعن.

[42]  فضائل الصحابة لأحمد (1\449 ـ450) برقم (720) وقال المحقق: إسناده صحيح. و يشهد لهذا الحديث ما أخرجه أبو حاتم قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو داود قال حدثنا همام عن قتادة عن محمد بن سيرين عن كعب... الحديث. و فيه قتادة و هو ثقة مدلس. و لكنه يصح لاعتضاده بسند صحيح.

[43]  راجع منهاج السنة لابن تيمية (4\384).

 [44]  (الإسراء:33).

[45]  راجع تفسير الآية في تفسير إبن كثير.

[46]  و هو ما يسمى عند الفقهاء بتحقيق المناط.

 [47] قال ابن حزم في "الفصل" (4\159): «فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه و أصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا، و إنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط له أجر الاجتهاد في ذلك. و لا إثم عليه فيما حُرِمَ من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله r أن لهم أجراً واحداً و للمصيب أجرين.

و لا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء و في الفروج و الأنساب و الشرائع و الأموال التي يدان الله بها من تحريم و تحليل و إيجاب، و يعذر المخطئين في ذلك!

و يرى ذلك مباحاً للّيث والبتي و أبي حنيفة و الثوري و مالك و الشافعي و أحمد و داود و إسحاق و أبي ثور و غيرهم كزفر و أبي يوسف و محمد بن الحسن بن زياد و ابن القاسم و أشهب و ابن الماجشون و المزني و غيرهم. فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان، و آخر منهم يحرمه –كمن حارب و لم يقتل أو عمل عمل قوم لوط. و غير هذا كثير. و واحد منهم يبيح هذا الفرج، و آخر منهم يحرمه، كبكر أنكحها أبوها و هي بالغة عاقلة بغير إذنها و لا رضاها. و غير هذا كثير. و كذلك في الشرائع و الأوامر و الأنساب. و هكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل و عمرو و سائر شيوخهم و فقهائهم. و هكذا فعلت الخوارج بفقهائهم و مفتيهم. ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة و الفضل و العلم و التقدم و الاجتهاد كمعاوية و عمرو و من معهما من الصحابة رضي الله عنهم. و إنما اجتهدوا في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون.

و في المفتين من يرى قتل الساحر، و فيهم من لا يراه. و فيهم من يرى قتل الحر بالعبد، و فيهم من لا يراه. و فيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر، و فيهم من لا يراه. فأي فرق بين هذه الاجتهادات و اجتهاد معاوية و عمرو و غيرهما، لولا الجهل و العمى و التخليط بغير علم؟!».

 [48] قال أبو العباس: «و أما قتال صفين، فذكر أنه ليس معه فيه نص، و إنما هو رأي رآه. و كان أحياناً يحمد من لم يَرَ القتال». الفتاوى (4\284).

[49]  القصة أخرجها ابن عساكر في تاريخه (59/140) بسندين إلى ابن أبي عروبة، و هو ثقة حافظ. و قد جمعت الروايتين في قصة واحدة. كما و أن ابن أبي الدنيا أورد الرواية الثانية في المنامات (رقم 124).